- العنود23
- عدد المساهمات : 7931
ذهب : 18107
تقييم المشاركات : 48
تاريخ التسجيل : 06/12/2011
الطب النفسي في العصر الإسلامي
الخميس مارس 15, 2012 9:41 am
الطب النفسي في العصر الإسلامي
إذا بحثنا في توجه الإسلام للتعامل مع المرض العقلى، لوصلنا إلى مصدرين أساسيين يشكلان هذا التوجه، هما :
لم تستخدم كلمة «مجنون» في القرآن للإشارة إلى الشخص الذي فقد عقله أوالشخص الذهاني، بل جاء ذكرها خمس مرات في القرآن تفسيراً لكيفية إدراك الناس للرسل والأنبياء.
ذكرت كلمة الجنون في القرآن في وصف ما يلاحظه الناس على كل الأنبياء من شذوذ عن المعتاد وبعد عن المألوف، حين يبدأون دعوتهم التنويرية، وقد اقترنت الكلمة أحياناً بالسحرة أو الشعراء أو العلميين، وبشكل ما نجد أن هناك مضموناً إيجابياً للجنون، يزعزع النظرية المضادة للطب النفسي في تفسيرها للجنون، والتي ازدهرت في منتصف الستينيات.
وردت كلمة «مجنون» 11 مرة في القرآن:
﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾«15:6»
﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾«26:27»
﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾«37:36»
﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾«44:14»
﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾«51:39»
﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾«51:52»
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾«52:29»
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾«54:9»
﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾«68:2»
﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾«68:51»
﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾«81:22»
ويرجع أصل كلمة «مجنون» إلى كلمة «جن»، وكلمة «جن» في العربية لها مصدر واحد مع عدد من الكلمات الأخرى ذات المعاني المختلفة، ويمكن استخدامها للإشارة إلى الشيء المستتر أو الخفي، كالستار، والدرع. فالجن أحد مخلوقات الله الخفية المستترة، والجنين مستتر داخل الرحم، والجنة خفية لايمكن إدراكها، والمجنون ستار على عقله.
ولا يجوز أن نخلط بين الاعتقاد الخاطئ الحالي بأن المجنون هو من مسه الجن، ومفهوم العصور الوسطى عن الجنون، فالجن في الإسلام ليس بالضرورة شيطاناً، أي ليس بالضرورة مرادفاً للروح الشريرة، دائماً بل هو روح خارج دائرة قوانين الطبيعة المحسوسة أقل منزلة من الملائكة، فبعض الجن مؤمن ويستمع إلى القرآن ويساعد في اتجاه العدالة الإنسانية. وحيث إن الإسلام ليس موجهاً للبشر فقط ولكن إلى العالم الروحاني بأكمله. مما أثر على مفهوم المرضى العقليين والتعامل معهم، فحتى إن تملكهم الجن مجازاً فإن هذا الامتلاك قد يكون من قبل الأرواح الخيرة أو الشريرة، ومن ثم فلا مجال هنا لتعميم العقاب أو صب اللعنات أو تعذيب المرضى.
والى جانب النظرة إلى الجنون باعتباره مساً من الجن، نجد نظرة أخرى إيجابية حيث ينظر الناس إلى فاقد العقل باعتباره شخصاً مبدعاً خلاقاً جريئاً في محاولته لإيجاد بدائل لنمط الحياة الساكن. وبهذا المعنى فقط، وجهت تهمة الجنون إلى النبي محمد والأنبياء الآخرين. ونجد الفكرة ذاتها في المواقف المختلفة من عدد من الغيبيات المعينة مثل الصوفية، حيث دفعت خبرات التمدد في الذات والوعي إلى نعتهم بالجنون، كذلك فإن مذكرات بعض الصوفية تعكس حدوث بعض الأعراض الذهانية، وكثير من المعاناة العقلية في طريقهم إلى خلاص النفس.
أما المفهوم الثالث للمرض العقلي، فهو نتيجة لعدم الانسجام أو ضيق الوعي الذي يتعرض له المؤمنون، ويرتبط بتزييف طبعية تكويننا الأساسي (الفطرة) وكسر انسجام وجودنا بواسطة الأنانية أو الاغتراب، الممثل جزئياً في افتقاد الاستبصار المتكامل، ويمكننا أن نفهم هذا المستوى أكثر إذا كان على معرفة بروح الإسلام، كأسلوب وجودي للحياة والتصرف والارتباط بالطبيعة والاعتقاد الدفين فيما وراء الحياة، والذي لا يجب بالضرورة أن يكون ما فوق الطبيعة.
ويعتمد المفهوم السائد عن المرض العقلى في مرحلة معينة على ما إذا كان الفكر الإسلامي المهيمن في تلك المرحلة يتميز بالتطور أو التأخر؛ فعلى سبيل المثال نجد أن المفهوم السائد في مراحل التأخر هو ذلك المفهوم السلبي الذي يعتبر المربض العقلى ممسوساً بأرواح شريرة، في حين أن مراحل التنوير والإبداع ترتبط بهيمنة مفهوم اختلال الانسجام مع المجتمع.
ولكي نفهم هذه الأبعاد الثلاثة لمفهوم المرض العقلى في الإسلام، وهى :
المس.
التجديد والتمدد في الذات.
اختلال الانسجام أو ضيق الوعي.
يجب أن نلم بالمزايا التي تتمتع بها الفلسفة الإسلامية، وهى:
1.العلاقة المباشرة مع الإله دون الحاجة إلى وسيط ؛ مما يجعل علاقة المسلم بالله علاقة مباشرة ملهمة، واثقة.
2.نظرة واقعية عملية لاحتياجات الجسد والروح، ذلك أن الانعزال والنكوص والزهد والتطير المثالي ليس من دعائم الإسلام.
3.تناسق الفروض والشعائر مع الإيقاع البيولوجي الدوري، مثل :الصلاة ,الصيام، الوضوء, والهرولة بين الصفا والمروة.. الخ.
4.الاعتقاد في البعث والآخرة، وهو ما يفتح الباب لبحث لانهائي في معرفة وخلق الزمن والذات.
5.حرية إبداعية غير محدودة، تعيد تشكيل مستويات جديدة من الوعي.
لقد ذكرت النفس 185 مرة في القرآن كمصطلح عام للوجود الإنساني، كجسد وسلوك ووجدان وتصرف، أي كوحدة نفسية-جسمية كاملة. ولقد وجدنا توازناً مثيراً بين مراحل التطور البشرى السبع كما ذكرت في الصوفية والتطور النفسجنسى طبقاً لفرويد، وكذلك النفس اجتماعي طبقاً لأريكسون، كلاهما (الأخيران) ينتهيان دون ما وصلت إليه الصوفية. لقد ارتبط ظهور الإسلام بتغييرات جذرية في سلوك العرب، ولقد شاع أن تعرف مرحلة ما قبل الإسلام بعصر الجاهلية؛
ذلك أن تلاشي الحضارة العربية القديمة والتي استمرت ما يتجاوز ألفي عام، وامتدت إلى عصور الآشوريين والبابليين، جعل الناس ينظرون إلى المرض العقلى تحديداً باعتباره نتيجة للأرواح الشريرة والجن.
لقد دفع القرآن باعتباره قانوناً دينياً جديداً، بالمسلمين إلى أسلوب جديد في الحياة استبدل بشكل جذري النمط الحضاري للفترة السابقة عليه، ولسنا هنا في حاجة للتأكيد أن القرآن ليس بمرجع طبي، ولا يجوز قياسه بالقياسات الأكاديمية الحديثة، ولكن من وجهة نظر الطب النفسي نجد دلالة تاريخية مهمة في ذلك الجزء من القرآن، الذي يتناول تفسير يوسف لحلم فرعون عن السبع بقرات السمان والسبع بقرات العجاف، وكذلك نجد القرآن دقيقاً حازماً بشأن بعض المشكلات الطبنفسية مثل الانتحار؛ إذ يقرّ بوضوح:
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾«٭4:29».
وقد وجد أن لهذا النهي أهمية كبيرة أى الوقاية من الانتحار. كذلك نجد أن نسبة إدمان الكحول منخفضة في البلدان العربية، ولا يخلو ذلك من دلالة أن منع النبيذ جاء في القرآن على مراحل تدريجية، إذ ينص بداية على أن
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾«٭4:43»،
ثم يليه ما يفيد أن الخمر هي رجس من عمل الشيطان:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾«5:90»
ثم أخيراً النهي عن الخمر تماماً
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾«5:91».
وتركزت فلسفة النهى في أن احتساء الخمر والمقامرة كليهما يؤديان إلى العداوة والكراهية بين الناس، ويلهيهم عن الصلاة، وقد امتد تحرم الخمر فيما بعد بالقياس ليتناول المسممات والمخدرات الأخرى.
وقد كان لتركيز الرسول على العلاقة بين العوامل النفسية والأمراض الجسمية أهمية خاصة، وقد اتضح ذلك جلياً في قوله ما يفيد بأن الكروب المتراكمة تؤثر على وظائف الجسد. وقد كان لتعاليم المعالج الكبير الرازي أعمق الأثر على الطب العربي والأوروبي، ومن أهم كتاباته «المنصوري» وكتاب «الحاوي».
ويتكون الكتاب الأول من عشرة فصول. تتضمن وصفاً لأنواع الأمزجة المختلفة، ويعتبر دليلاً متكاملاً في مجال الخلقة تدل على الخلق، أما كتاب «الحاوي» فيعتبر أكبر موسوعة طبية أصدرها طبيب عربي، وقد تُرجمت إلى اللاتينية عام 1279م، ونشرت في عام 1486م، وتعتبر أول كتاب إكلينيكي يعرض الشكاوى والعلامات والتشخيص المفارق والعلاج المؤثر للمريض. ويعدها بنحو مائة عام، ظهر كتاب «القانون» لابن سينا، والذي يعتبر كتاباً تعليمياً يتميز بالتصنيف الأفضل والترتيب الذهني والتوجه المنطقي، وقد قدر له أن يمثل أساس التعليم الطبي في أوروبا لعدة قرون.
وقد جاء بعد «القانون» عملٌ آخر لا يقل روعة، ألا وهو كتاب «الملكي» لعلي عباس الذي يعتبر مثل «الحاوي» للرازي عملاً خالداً في مجال التنظير والممارسة في الطب.
إذا بحثنا في توجه الإسلام للتعامل مع المرض العقلى، لوصلنا إلى مصدرين أساسيين يشكلان هذا التوجه، هما :
لم تستخدم كلمة «مجنون» في القرآن للإشارة إلى الشخص الذي فقد عقله أوالشخص الذهاني، بل جاء ذكرها خمس مرات في القرآن تفسيراً لكيفية إدراك الناس للرسل والأنبياء.
ذكرت كلمة الجنون في القرآن في وصف ما يلاحظه الناس على كل الأنبياء من شذوذ عن المعتاد وبعد عن المألوف، حين يبدأون دعوتهم التنويرية، وقد اقترنت الكلمة أحياناً بالسحرة أو الشعراء أو العلميين، وبشكل ما نجد أن هناك مضموناً إيجابياً للجنون، يزعزع النظرية المضادة للطب النفسي في تفسيرها للجنون، والتي ازدهرت في منتصف الستينيات.
وردت كلمة «مجنون» 11 مرة في القرآن:
﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾«15:6»
﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾«26:27»
﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾«37:36»
﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾«44:14»
﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾«51:39»
﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾«51:52»
﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾«52:29»
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾«54:9»
﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾«68:2»
﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾«68:51»
﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾«81:22»
ويرجع أصل كلمة «مجنون» إلى كلمة «جن»، وكلمة «جن» في العربية لها مصدر واحد مع عدد من الكلمات الأخرى ذات المعاني المختلفة، ويمكن استخدامها للإشارة إلى الشيء المستتر أو الخفي، كالستار، والدرع. فالجن أحد مخلوقات الله الخفية المستترة، والجنين مستتر داخل الرحم، والجنة خفية لايمكن إدراكها، والمجنون ستار على عقله.
ولا يجوز أن نخلط بين الاعتقاد الخاطئ الحالي بأن المجنون هو من مسه الجن، ومفهوم العصور الوسطى عن الجنون، فالجن في الإسلام ليس بالضرورة شيطاناً، أي ليس بالضرورة مرادفاً للروح الشريرة، دائماً بل هو روح خارج دائرة قوانين الطبيعة المحسوسة أقل منزلة من الملائكة، فبعض الجن مؤمن ويستمع إلى القرآن ويساعد في اتجاه العدالة الإنسانية. وحيث إن الإسلام ليس موجهاً للبشر فقط ولكن إلى العالم الروحاني بأكمله. مما أثر على مفهوم المرضى العقليين والتعامل معهم، فحتى إن تملكهم الجن مجازاً فإن هذا الامتلاك قد يكون من قبل الأرواح الخيرة أو الشريرة، ومن ثم فلا مجال هنا لتعميم العقاب أو صب اللعنات أو تعذيب المرضى.
والى جانب النظرة إلى الجنون باعتباره مساً من الجن، نجد نظرة أخرى إيجابية حيث ينظر الناس إلى فاقد العقل باعتباره شخصاً مبدعاً خلاقاً جريئاً في محاولته لإيجاد بدائل لنمط الحياة الساكن. وبهذا المعنى فقط، وجهت تهمة الجنون إلى النبي محمد والأنبياء الآخرين. ونجد الفكرة ذاتها في المواقف المختلفة من عدد من الغيبيات المعينة مثل الصوفية، حيث دفعت خبرات التمدد في الذات والوعي إلى نعتهم بالجنون، كذلك فإن مذكرات بعض الصوفية تعكس حدوث بعض الأعراض الذهانية، وكثير من المعاناة العقلية في طريقهم إلى خلاص النفس.
أما المفهوم الثالث للمرض العقلي، فهو نتيجة لعدم الانسجام أو ضيق الوعي الذي يتعرض له المؤمنون، ويرتبط بتزييف طبعية تكويننا الأساسي (الفطرة) وكسر انسجام وجودنا بواسطة الأنانية أو الاغتراب، الممثل جزئياً في افتقاد الاستبصار المتكامل، ويمكننا أن نفهم هذا المستوى أكثر إذا كان على معرفة بروح الإسلام، كأسلوب وجودي للحياة والتصرف والارتباط بالطبيعة والاعتقاد الدفين فيما وراء الحياة، والذي لا يجب بالضرورة أن يكون ما فوق الطبيعة.
ويعتمد المفهوم السائد عن المرض العقلى في مرحلة معينة على ما إذا كان الفكر الإسلامي المهيمن في تلك المرحلة يتميز بالتطور أو التأخر؛ فعلى سبيل المثال نجد أن المفهوم السائد في مراحل التأخر هو ذلك المفهوم السلبي الذي يعتبر المربض العقلى ممسوساً بأرواح شريرة، في حين أن مراحل التنوير والإبداع ترتبط بهيمنة مفهوم اختلال الانسجام مع المجتمع.
ولكي نفهم هذه الأبعاد الثلاثة لمفهوم المرض العقلى في الإسلام، وهى :
المس.
التجديد والتمدد في الذات.
اختلال الانسجام أو ضيق الوعي.
يجب أن نلم بالمزايا التي تتمتع بها الفلسفة الإسلامية، وهى:
1.العلاقة المباشرة مع الإله دون الحاجة إلى وسيط ؛ مما يجعل علاقة المسلم بالله علاقة مباشرة ملهمة، واثقة.
2.نظرة واقعية عملية لاحتياجات الجسد والروح، ذلك أن الانعزال والنكوص والزهد والتطير المثالي ليس من دعائم الإسلام.
3.تناسق الفروض والشعائر مع الإيقاع البيولوجي الدوري، مثل :الصلاة ,الصيام، الوضوء, والهرولة بين الصفا والمروة.. الخ.
4.الاعتقاد في البعث والآخرة، وهو ما يفتح الباب لبحث لانهائي في معرفة وخلق الزمن والذات.
5.حرية إبداعية غير محدودة، تعيد تشكيل مستويات جديدة من الوعي.
لقد ذكرت النفس 185 مرة في القرآن كمصطلح عام للوجود الإنساني، كجسد وسلوك ووجدان وتصرف، أي كوحدة نفسية-جسمية كاملة. ولقد وجدنا توازناً مثيراً بين مراحل التطور البشرى السبع كما ذكرت في الصوفية والتطور النفسجنسى طبقاً لفرويد، وكذلك النفس اجتماعي طبقاً لأريكسون، كلاهما (الأخيران) ينتهيان دون ما وصلت إليه الصوفية. لقد ارتبط ظهور الإسلام بتغييرات جذرية في سلوك العرب، ولقد شاع أن تعرف مرحلة ما قبل الإسلام بعصر الجاهلية؛
ذلك أن تلاشي الحضارة العربية القديمة والتي استمرت ما يتجاوز ألفي عام، وامتدت إلى عصور الآشوريين والبابليين، جعل الناس ينظرون إلى المرض العقلى تحديداً باعتباره نتيجة للأرواح الشريرة والجن.
لقد دفع القرآن باعتباره قانوناً دينياً جديداً، بالمسلمين إلى أسلوب جديد في الحياة استبدل بشكل جذري النمط الحضاري للفترة السابقة عليه، ولسنا هنا في حاجة للتأكيد أن القرآن ليس بمرجع طبي، ولا يجوز قياسه بالقياسات الأكاديمية الحديثة، ولكن من وجهة نظر الطب النفسي نجد دلالة تاريخية مهمة في ذلك الجزء من القرآن، الذي يتناول تفسير يوسف لحلم فرعون عن السبع بقرات السمان والسبع بقرات العجاف، وكذلك نجد القرآن دقيقاً حازماً بشأن بعض المشكلات الطبنفسية مثل الانتحار؛ إذ يقرّ بوضوح:
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾«٭4:29».
وقد وجد أن لهذا النهي أهمية كبيرة أى الوقاية من الانتحار. كذلك نجد أن نسبة إدمان الكحول منخفضة في البلدان العربية، ولا يخلو ذلك من دلالة أن منع النبيذ جاء في القرآن على مراحل تدريجية، إذ ينص بداية على أن
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾«٭4:43»،
ثم يليه ما يفيد أن الخمر هي رجس من عمل الشيطان:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾«5:90»
ثم أخيراً النهي عن الخمر تماماً
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾«5:91».
وتركزت فلسفة النهى في أن احتساء الخمر والمقامرة كليهما يؤديان إلى العداوة والكراهية بين الناس، ويلهيهم عن الصلاة، وقد امتد تحرم الخمر فيما بعد بالقياس ليتناول المسممات والمخدرات الأخرى.
وقد كان لتركيز الرسول على العلاقة بين العوامل النفسية والأمراض الجسمية أهمية خاصة، وقد اتضح ذلك جلياً في قوله ما يفيد بأن الكروب المتراكمة تؤثر على وظائف الجسد. وقد كان لتعاليم المعالج الكبير الرازي أعمق الأثر على الطب العربي والأوروبي، ومن أهم كتاباته «المنصوري» وكتاب «الحاوي».
ويتكون الكتاب الأول من عشرة فصول. تتضمن وصفاً لأنواع الأمزجة المختلفة، ويعتبر دليلاً متكاملاً في مجال الخلقة تدل على الخلق، أما كتاب «الحاوي» فيعتبر أكبر موسوعة طبية أصدرها طبيب عربي، وقد تُرجمت إلى اللاتينية عام 1279م، ونشرت في عام 1486م، وتعتبر أول كتاب إكلينيكي يعرض الشكاوى والعلامات والتشخيص المفارق والعلاج المؤثر للمريض. ويعدها بنحو مائة عام، ظهر كتاب «القانون» لابن سينا، والذي يعتبر كتاباً تعليمياً يتميز بالتصنيف الأفضل والترتيب الذهني والتوجه المنطقي، وقد قدر له أن يمثل أساس التعليم الطبي في أوروبا لعدة قرون.
وقد جاء بعد «القانون» عملٌ آخر لا يقل روعة، ألا وهو كتاب «الملكي» لعلي عباس الذي يعتبر مثل «الحاوي» للرازي عملاً خالداً في مجال التنظير والممارسة في الطب.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى